السيادة الوطنيّة مصطلح يحضر خاصّة في حروب التحرير والمناوشات الحدوديّة والمعارك االعسكريّة عامّة، وقد يتّسع هذا المفهوم لينفتح على أبعاد أخرى اقتصاديّة وثقافيّة ورياضيّة وعلميّة وفنيّة وديبلوماسيّة…
ومن المجالات التي يمكن أن تستوعب في عمقها وآثارها ودقّتها كلّ تلك الأبعاد، عالم الجينات، أَيْ نعم، ففي هذا العالم الحيويّ الفريد تتركّز معاني الأصالة والتحرّر والثقة والاكتفاء والأمان، فإنقاذ عيّنةٍ من الجينات النباتية أو الحيوانية ذات القيمة الغذائيّة أو الجماليّة أو البيئيّة يعدّ حدثًا وطنيًّا، فما بالك وقد تمكّنت تونس يوم 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 من استرجاع أكثر من 1700 جينة نباتيّة من البنوك الجينية الاستراليّة، وهي عمليّة أشبه بتحرير الرهائن نظرًا إلى ملابساتها وما اقتضته هذه العملية النوعيّة من إصرار وحكمة وحسن تدبير.
ملحمة “جينيّة” في سنة استثنايّة
يمكن اعتبار “حرب الجينات” أمَّ المعارك في زمن تعاني فيه تونس الجفاف والأمراض والعديد من المحن البيئيّة، فالجينات التونسيّة الأصيلة متمرّسة على الآفات الطبيعيّة، فما أحوجنا لها في هذه الفترة الزمنية التي تواتر فيها انحباس الأمطار وتكاثرت فيها أمراض ما انفكت تفتك بعدد من المغروسات والنباتات.
هذا ما يفسّر آيات الشعور بالنصر التي لمسناها على محيّا ناصر مبارك مدير بنك الجينات، وقد عاين “ألترا تونس” صندوقين أزرقين انتظمت داخلها في عزة وشهامة وإباء 1705 جينة نباتية تمّ استرجاعها بعد جهد جماعيّ متميّز ساهم فيه على حدّ تعبير مبارك العديد من العاملين بالمركز، فقد اقتضى الأمر في البداية البحث والتقصّي والمراجعة والمقارنة والفحص الدقيق لمعرفة مكان العينات، وفي مرحلة ثانية تمّ الاتصال ببنك الجينات بأستراليا ودّيًّا ورسميًّا.
في الأثناء، يضيف محدّثنا، حصلت تعطيلات عديدة، إذ أبدى الطرف المقابل ألوانًا من التسويف، فتعطّل الردّ، وأمام إلحاح البنك التونسيّ للجينات وضع الأستراليون شرطًا مادّيًّا تمثّل في المطالبة بأموال لانتداب فنيين للإكثار من تلك الجينات ذات الأصول التونسيّة، فراهن التونسيون على خطاب أكثر صرامة من خلال التذكير بالاتفاقية الدولية مع منظمة التغذية والزراعة (FAO)، وهي اتفاقية تفرض على الدول الموقعة عليها ومنها تونس وأستراليا تبادل الموارد الجينية وتعتبر إرجاع الجينات إلى مواطنها الأصلية أمرًا ملزمًا، فبإمكان المتضرّر تقديم شكوى إلى الأمانة العامة للـ”فاو“، ومن العناصر التي ساهمت في نجاح مأمورية تحرير الرهائن الجينية تغيير مدير بنك الجينات بأستراليا، فقد أبدى المسؤول الجديد تفهّمًا، فاستجاب للطلب التونسيّ.
تكفي الإشارة إلى أنّ هذا النوع من القمح يحتوي نسبة سبعة عشر بالمائة (17%) من البروتينات. وكان بنك الجينات قد وزع في بداية الموسم الزراعي 2019-2020 خمسة وعشرين طنًّا من مشاتل الشعير والقمح المتجذرة الراسخة في التربة التونسية منها البسكري والشيلي والمحمودي فالرهان على الجينات الوطنية الأصيلة هو في النهاية رهان صحّي وعلميّ وسياديّ في آن.