الحبوب التونسية: من رمز للسيادة الوطنية إلى حالة تبعية

تعد تونس من بين أول البلدان المستهلكة للعجين في العالم، بل يذهب كثير من الباحثين والخبراء إلى  تصنيفها الأولى أو الثانية قبل إيطاليا، خاصة من حيث استهلاكها للقمح الصلب. حيث يستهلك التونسي 185 كغ في العام تقريبا من القمح والشعير.

وخلافا لهذا النمط الاستهلاكي المرتفع، في هذا المجال، يعيش قطاع الحبوب عامة والبذور خاصة تدهورا خطيرا، في مؤشرات استعمال البذور المحلية من 65 بالمائة سنة 1975 إلى 25 بالمائة سنة 2004، وينخفض المعدل بصورة تدريجية حتى يبلغ أقل من 5 بالمائة هذه السنة.. في صفارة إنذار وتراجع خطير قد يحيلنا إلى أكثر من نقطة استفهام، حول التبعية المفرطة التي أضحت تعيشها البلاد في هذا المجال والضرورة الملحة لتعافي المنظومة الغذائية والصحية، من هذا الورم الخطير الذي ما انفك ينخر الأمن الغذائي من ناحية والسيادة التونسية في مجال البذور من ناحية ثانية.

مشاكل يعانيها القطاع الفلاحي

وتشير تحقيقات إلى ان اغلب الخضر التي يستهلكها التونسي مصدرها بذور مهجنة مستوردة من الخارج، كما أن الدولة التونسية تستورد سنويا بقيمة 100 مليون دينار من البذور ذات المردود المنخفض من قبل شركات أجنبية بعد اختفاء البذور الأصلية.

كل هذا فضلا على ان تلك البذور أثرت سلبا في المنتوج التونسي من الخضر وبالتالي على الإنتاج الفلاحي، علاوة على الأمراض التي تحدثها سواء في النباتات أو في الإنسان نظرا لأنها محورة جينيا.

غموض وتكتم من كثير من الأطرف.. وأكثر من نقطة استفهام دون جواب..  فلماذا كل هذا التراجع في استعمال البذور المحلية والوطنية ؟ وما هي الأسباب الكامنة وراء هذا؟ من يتحمل المسؤولية في ذلك؟ وما هو الفرق بين البذور المحلية والمستوردة؟

في هذا التحقيق حاولنا استقصاء الحقيقة لمعرفة تداعيات هذا التراجع المريب والمؤشرات الخطيرة والحلول الكفيلة لإستئصال هذا الورم الذي ينخر اقتصاد البلاد ويهدد العادات الغذائية لدى العباد.

أسباب تفشي الورم

في تشخيصنا للأسباب الكامنة وراء تفشي ظاهرة انتشار الحبوب الهجينة والمستوردة وبداية انقراض الحبوب المحلية والوطنية، يروي أحد الفلاحين وهو محمود الحسيني لوعته وكيفية تضرر قطاع الفلاحة من هذا الورم، ناقلا عن شاهد عيان-فلاح آخر- من طبربة  حضر على عملية توزيع، صارت منذ 3 سنوات لعلب زراعة بصفة مجانية من موظفين عن المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية– داعين الفلاحين لزراعة الخيار، البطيخ، الطماطم والفجل إلخ مجانا.

ويؤكد شاهد العيان أن  نتائج استخدام هذه العلب في بادئ الأمر كانت جد مرضية، ما جنبه أتعاب التربية والتجفيف والتحديد والاختيار “أنا وزوجتي وأمي، علاوة على أن الزرع كان ذلك الموسم متميزا.. وهذا ما جعل أغلب الفلاحين الذين استعملوا هذه الطريقة يتخلون عن عادات الأجداد في الزراعة واستعمال الحبوب الوطنية والمحلية”.

ويضيف الحسيني: ”هذه العلب التي كانت سببا مباشرا  في  تفشي الحبوب الهجينة فيما بعد، جاءت في علب مزينة من شركات أمريكية “مونسونتو” وسويسرية، جاءت لتسحق ما تبقى من زراعات محلية متنوعة وتوقع الفلاحين في قبضة تجار تعاملوا مع الظرفية بكل جشع بإيعاز من الدولة التونسية التي شجعت على ذلك ولم توضح للفلاحين حقيقة هذه الهدايا المسمومة. فبعد أن تخلى الفلاح التونسي عن عاداته المجيدة في الزراعة واستعمال البذور المحلية مثل ”الشيلي والمحمودي” أصبحت هذه البذور تطرح بمقابل باهض للفلاحين بل واستفحل الحال حيث أضحت هذه البذور ذات استعمال واحد stérile   يعني لموسم فقط لا يتكرر.

ويواصل الحسيني بتأوه مشحون بكثير من الألم يكاد يختزل كثيرا من الصعوبات التي تصف ما يعيشه القطاع الفلاحي التونسي حيث يقول: “كان والدي من أبرز المناهضين للمستعمر الفرنسي، لكن الجميل ذلك الوقت هو تظافر كل جهود الوطنيين لمقاومة المستعمر الغاشم آنذاك، لكن الأمر الآن أضحى أكثر خطورة خاصة عندما يجد بعض الفلاحين التونسيين في حالة عزلة وانفراد أمام مستعمر اقتصادي يمنع انتاج الخبز الأسود وزراعة البذور المحلية لجني المحاصيل.. حتى الغنم أصبح التونسي يستورد الخروف الأسود.. بل أن ”النعجة العربي” التي كانت موجودة في سيدي بوزيد أضحت الآن مهددة بالانقراض..”

ويختم الحسيني حديثه قائلا: ”لهذه الأسباب ولغيرها أصبح معهد التغذية في تونس يعج بمرضى السكري والدم وذلك لتخلي الفلاح التونسي عن عادات الأجداد في الزراعة ..”

فرق واسع بين البذور المحلية والمستوردة

نفس الإحساس يعيشه الفلاح بلال المرزوقي الذي لا تختلف قصته في معالمها وتفاصيلها عن قصة الحسيني ولعل ما يميزها تشديد الأخير على الخصائص المميزة للبذور التونسية حيث يعتبرها الأخير مفيدة في البصر والصحة عموما، علاوة على مذاقها الطيب والأفضل ..كما أن زراعة سميد “الكوسام والبوربيع والكريم ..” تتم بطريقة يدوية دون دواء إضافة إلى أن مردودها عال ومميز.. حيث أن القمح الشيلي-قمح محلي- علاوة على منافعه الصحية، فإنه يقاوم الحمرة و”الرفة- الجفاف- .. يجمع منه المرزوقي صابته ويدخر منه عولته ويصفي منه أكله ويبقى منه للبيع، فيما البذور الهجينة والأجنبية ضعيفة المناعة وفي حاجة ماسة للأدوية نتيجة تعرضها للحمرة فالبذور الأجنبية قد تغري الفلاحين بمحاصيل وافرة نسبياً، ولكن ضررها أكبر على المدى البعيد.

لوبيات تضغط في اتجاه التوريد

عند استفسارنا عن المشاكل التي تهدد الأمن الغذائي التونسي، أفاد رئيس اتحاد الفلاحين التونسيين عبد المجيد الزار بأن البور الهجينة قد اكتسحت السوق وكنست البذور المحلية ودفعت بالفلاح التونسي في اتجاه التوريد. وقد رجح الزار أهم الأسباب المساهمة في ذلك إلى مسك بعض البارونات بالسوق ومحاولاتهم الدائمة خلق مناخ تجاري لصالحهم دون الاكتراث بالمصلحة الوطنية. ويشدد  عبد المجيد الزار على ضرورة استعادة استقلاليتنا على مستوى الأمن الغذائي وتوفير البذور والأسمدة المحلية حتى لا يبقى الفلاح التونسي رهينة لقرار الآخر.

حلول لتحصين الأمن الغذائي

يعتبر الباحث في بنك الجينات إلياس باباي أن 98 بالمائة من البذور التي يستهلكها التونسي محصنة في مخابر مثل: كريم ورزاق ومعالي وأم ربيع فهذه البذور محصنة نتاج عمل مخبري في تونس. فهذه البذور تعتبر محلية وليست وطنية أي أن التونسي لا يزرعها وليست أصلية.

كما يقترح باباي، لتحصين الأمن الغذائي التونسي، المحافظة على الحبوب المحلية في بنك الجينات بالطرق العلمية. كما ينبغي على مخابر البحث استغلال هذا الموروث الجيني لتقديم بذور تلبي حاجيات التونسي الغذائية إضافة إلى ضرورة تحصين الأمن الغذائي وحمايته من البذور الهجينة.

يشدد كثير من الفلاحين على ضرورة استعمال ”الشيلي” و”المحمودي” وغيرها من البذور المحلية كراية لحماية العادات التونسية وتأمين السيادة الوطنية، كما يجمع الكثير أن فخ البذور الهجينة ساعدت في نصبه أجهزة الإرشاد الفلاحي التي كانت متواجدة في سنوات الثمانينات والتي تكاد تكون منعدمة اليوم، لكن فلاحون قلائل تفطنوا لفخ الغذاء والبذرة وحافظوا دون سند من الدولة على إرث مهدد بالاندثار.

شاهد أيضاً

أول موقع في الشمال الغربي يعمل على دعم المنتوج التونسي و مساندة الحرفيين و أصحاب المشاريع الصغرى

مجردة هو أول موقع تونسي تأسس في ديسمبر 2021 في الشمال الغربي باش يكون دافع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.